أنا آسف. هذا كل ما كان باستطاعتي أن أتمتمه. حاولت أن أتفادى الموقف، أن أخرج السيارة بنفسي، ولكن هيهات. فالسيارة عالقة داخل الرمال. لم تكن هذه هي النهاية التي تخيلتها لتجربتي، وأشعر بوجنتي وهما تحمران خجلا حين يصل الفريق المرافق لجر السيارة من الرمال، بعد أن خرجت عن الطريق. لحسن الحظ، الأمر ليس غريبا عليهم. بل على العكس، يؤكد لي أحد المهندسين أن الأمر طبيعي جدا. ففي النهاية أنا أقود سيارة بورشه 911 GT3 مخصصة للسباقات، دون نظام لمنع غلق المكابح، ودون أي نظام للتحكم بالتماسك.
هناك تجارب قيادة تختلف عن مثيلاتها، وتظل في ذاكرتك لفترة طويلة من الزمن. تجارب مختلفة، تعيد إليك الشعور مرة أخرى بأنك تمارس أروع وظيفة في العالم. تجارب تفصلك عن عالم السيارات والصحافة والفيديو واليوتيوب وغيرها، وتعيد تذكيرك بما شدك إلى هذا المجال في المقام الأول: السيارات الرياضية السريعة. وهذه التجربة هي إحدى هذه المرات.
فأنا في حلبة لاوزتسرينغ (ذات الاسم الصعب جدا!) في شرق ألمانيا، وأمامي تقبع ثلاث سيارات، كل واحدة منها أروع من الأخرى. أولها، وأقربها إلي سيارات الإنتاج التجاري، هي بورشه 911 جي تي 3 “كاب”، والمخصصة لسباقات تحدي بورشه، كتلك التي تقام في الشرق الأوسط، والتي تقام العديد من بطولاتها حول العالم. إلى جانبها تقف بورشه 911 جي تي 3 آر. ربما الفارق إضافة حرف واحد، ولكنه يعني أن هذه السيارة مخصصة للتسابق ضمن بطولات آي ا الاتحاد الدولي للسيارات، في فئة سيارات الجي تي. وأخيرا إلى جانبها تربض بورشه 911 آر أس آر، سلاح بورشه الرسمي في بطولة العالم لسباقات التحمل.
النظرة الأولى قد توحي بأن السيارات الثلاثة جميعا متشابهة، ولكن في الحقيقة كل منها تختلف عن الأخرى، سواء من حيث المبدأ أو من حيث الأداء. فبورشه 911 جي تي 3 “كاب”، أو الكأس، هي سيارة كما يشير اسمها، مخصصة أصلا للتنافس في بطولات كأس بورشه الخاصة. السيارة مشابهة بشكل كبير لطراز 911 جي تي 3 التجاري، وهنا وقعت في الفخ. فهذه السيارة تختلف تماما عن سيارات بورشه المخصصة للشوارع العامة. وزن السيارة يبلغ حوالي 1,200 كيلوغرام فقط، فيما محرك البوكسر ذي الاسطوانات الستة المنبطحة تبلغ سعته 4.0 ليتر، ويولد قوة تبلغ 485 حصانا مع 480 نيوتن متر من عزم الدوران.
هناك طبعا فوارق أخرى كثيرة، منها علبة التروس ذات النسب الستة، والتي تعمل بنظام دوغ بوكس، بمعنى عدم حاجتها إلى كلتش أصلا لتغيير النسب، وتعديلات لجسم السيارة الذي صنعت أجزاؤه من مواد خفيفة الوزن، وطبعا نظام مكابح مختلف بقوة أكبر. ولكن الفارق الأكبر هو في غياب أنظمة التحكم بالتماسك، ونظام منع غلق المكابح.
قد تعتقد أن هذا الأمر يجعل السيارة صعبة للقيادة. فسنوات من قيادة السيارات “المروضة” بأنظمة التماسك هذه، تكسب السائق عادات سيئة بالتسرع في الضغط على دواسة الوقود، معتمدا على نظام التحكم بالتماسك لمنع انزلاق السيارة. ولكن بإمكان السائق أن يشعر فعلا بمدى تماسك البورشه 911 جي تي 3 هذه، وتحس بالمؤخرة وهي تبدأ بالخروج عن خط السير. ولكن ما لن تعتاد عليه بسرعة هو غياب نظام منع غلق المكابح. المشكلة ليست في الوصول إلى نقطة الغلق، ولكن في التجاوب مع الانزلاق الحاصل.
وهذا ربما ما جرى معي. فبعد الخروج من منعطف أيسر، هناك بضعة أمتار قبل الوصول إلى منعطف أيمن ضيق، يتطلب النزول إلى النسبة الثالثة أو حتى الثانية. ربما بالغت في الضغط على دواسة الوقود قليلا، أو ربما ضغطت أكثر من اللازم على المكابح أو تأخرت في ذلك. أو ربما حتى خرج طرف الإطارات على العشب الجانبي. لا أدري حقيقة. ولكن ما جرى بعد ذلك، جرى بسرعة إلى درجة أنني لم أتمكن من فعل أي شيء. فجأة مؤخرة السيارة تستدير بقوة، وعلى الرغم من التوجيه العكسي الفوري للمقود بشكل كامل إلى اليسار، لم أتمكن من اصطياد المؤخرة، ووجدت نفسي أنزلق فورا نحو الرمال الجانبية في منطقة الأمان. وليزداد الأمر إحراجا، يبدو أن المصور انتقى تلك الزاوية ليأخذ بعض اللقطات، ولتظل شاهدا على ذلك. وأنا متأكد أن رئيس التحرير سيقرر استعمال تلك اللقطة في هذا المقال :صحيح – رئيس التحرير.
المشكلة هي أن السيارة التالية ليست أقل شأنا من هذه. فجولتي التالية هي على متن بورشه 911 جي تي 3 آر. قد لا يتعدى الفارق في الاسم بين السيارتين مجرد إضافة حرف آر، ولكنه يغير تماما من طبيعة السيارة. المحرك هنا ترتفع قوته إلى 500 حصان، وعوضا عن علبة التروس العاملة بنظام دوغ بوكس، تحصل السيارة على علبة تروس متتالية من ست نسب أيضا. كما تشعر هنا بالاختلاف بشكل أكبر بين السيارة وطراز 911 جي تي 3 آر الذي تبنى السيارة على قاعدته بشكل أكبر. فمن حيث الجسم الخارجي، السيارة أعرض، والمقدمة تختلف، والجناح الخلفي يكمل الشكل العدائي للسيارة. ولكن بإمكانك أن ترى فورا أن الأمر ليس تجميليا، بقدر ما هو عملي. فهذه سيارة السباقات التي تشارك على متنها الفرق المصنعية والفرق الخاصة في سباقات الجي تي حول العالم.
والأمر يصل حتى إلى داخل المقصورة. فبينما من الواضح أن بورشه 911 جي تي 3 ” كاب” تعتمد طراز بورشه 911 جي تي 3 قاعدة لها من شكل لوحة القيادة، تبدو الاختلافات أكبر وأكثر جوهرية في طراز 911 جي تي 3 آر، مع لوحة قيادة أكثر تعقيدا، ومقود يحصل على مجموعة أكبر من الأزرار والمقابض الدوارة للتحكم في أنظمة السيارة المختلفة، سواء من حيث المعلومات التي تعرض على الشاشة، أو التحكم مثلا بنمط تعيير المحرك أو قوة نظام منع غلق المكابح، وقوة عمل نظام التحكم بالتماسك وقدر الانزلاق الذي يسمح به قبل أن يتدخل. نعم، هذا صحيح. فهذه السيارة، والتي تستخدم في سباقات التحمل أيضا، أكثر تعقيدا بكثير، وتحصل على مثل هذه الأنظمة. هذا الأمر يجعل منها سيارة أسهل للقيادة بسرعة، وأصعب للقيادة بسرعة حقيقة. دعوني أشرح لكم ذلك.
الوصول إلى السرعات العالية هنا أسهل، بفضل القوة الإضافية والأداء الأعلى. التماسك أيضا أفضل، وعلبة التروس أسرع وأكثر تجاوبا. وطبعا الكبح أسهل، وتشعر بثقة أكبر معه كونك تعرف بأن السيارة لن تنزلق بسهولة. المشكلة هنا هو أن كل ذلك يعني أن الوصول إلى لفة مثالية أصعب. فبإمكانك مع كل لفة أن تكبح متأخرا أكثر، وتضغط على دواسة الوقود بشكل أبكر قليلا. ولكن من الصعب أن تفعل ذلك لفة بعد الأخرى، في كل منعطف. وعلى الرغم من أن الأداء أعلى، إلا أنك تشعر دائما بأن هناك مكانا ما من الممكن أن تحسن من وقتك فيه، وأن تتخذ مسارا أفضل في أحد المنعطفات.
طبعا الفارق في الأداء ينعكس أيضا فارقا في السعر. فكلا السيارتين توفرها بورشه لزبائنها، جاهزة للقيادة. ولكن بينما يبلغ سعر بورشه 911 جي تي 3 “كاب” أقل بقليل من 190,000 يورو، يصل سعر جي تي 3 آر إلى حوالي 429,000 يورو. فارق كبير يعكس التكنولوجيا الإضافية بين سباقات الهواة وسباقات المحترفين. ففي النهاية، كأس تحدي بورشه مصمم للسائقين الهواة، بينما طراز 911 جي تي 3 آر هو سيارة سباق مصنفة للمشاركة في بطولات العالم لسيارات الجي تي وسباقات التحمل.
كلتاهما تبدوان مجرد لعبة أمام طراز 911 آر أس آر. نحن هنا لا نتكلم عن سيارة عادية، بل عن سيارة بورشه، وأقصد بذلك أنها سيارة المصنع نفسها، ولا تتوفر للفرق الخاصة. بل إن السيارة لم يصنع منها سوى سبع نسخ فقط، اثنتان تشاركان في بطولة العالم لسيارات التحمل، واثنتان للمشاركة في سباقات التحمل الأمريكية، وثلاث سيارات أخرى للتجارب. قلة من السائقين المحترفين حول العالم سنحت لهم فرصة قيادة هذه السيارة، وحقيقية أن عالم السيارات حصلت على هذه الفرصة الفريدة بشكل حصري أمر يبعث على الفخر.
ما هي 911 آر أس آر إذا؟ إنها سيارة سباقات بمعنى الكلمة. لا تدعوا شكلها الخارجي يخدعكم، فهذه ليست 911 كما نعرفها. التغيير الأكبر يكمن في المحرك. ربما قوة المحرك محددة عند 470 حصانا، ولكن الفارق يظهر جليا حين ننظر إليه والسيارة متوقفة. ذلك أن محرك 911 آر أس آر لا يجلس في الخلف كما هو الحال في سيارات بورشه 911 العادية، بل يقبع في وسط السيارة. هذا الأمر يغير تماما من توازن السيارة وشخصيتها، إذ يسمح للمهندسين بتوزيع الوزن فيها بشكل أفضل.
صوت المحرك يختلف تماما أيضا عن سيارات بورشه 911 الأخرى. الصوت “الأجش” المعروف عن محركات بورشه من فئة بوكسر يختفي، ليحل مكانه “عويل” يحاكي صوت وحش مفترس ينقض على فريسته. السير على السرعة البطيئة داخل خط الحظائر أمر صعب. فالسيارة تهتز أماما وخلفا، وكأنها وحش ينتظر إطلاق العنان له. وحين تصل إلى نهاية منطقة الحظائر، وتطفئ زر التحكم بالسرعة، فإن الوحش يكشر عن أنيابه.
السرعة تتصاعد بشكل مذهل، والصوت… يا له من صوت! إنه مزيج من موسيقى صاخبة وهدير صاخب يصم الآذان. الأضواء في أعلى المقود تومض متتالية، حركة سريعة من أصابع اليد اليمنى، وضربة في الظهر حين يتم اختيار النسبة التالية. المقود نفسه معقد، مع العديد من الأزرار والمقابض، وشكله لا يشبه أي مقود تقليدي. بل هو أشبه بذلك الذي تجده في سيارات الفورميولا واحد.
المقود دقيق جدا، ومجرد تحريكه قيد أنملة يترجم تغييرا في وجهة السيارة. أما المكابح، فالضغط عليها يشبه الارتطام بحائط اسمنتي خفي. وطبعا المحرك جاهز دوما والتسارع فوري بمجرد الضغط على دواسة الوقود.
على عكس شقيقاتها، قيادة 911 آر أس آر ليست أمرا سهلا. فهذه السيارات تحتاج للاعتياد عليها. حتى وضعية الجلوس فيها مختلفة. فأنت تجلس منخفضا بشكل أكبر، وأرجلك ممتدة للأمام. كيف يقوم سائقوا بورشه بالدخول الخروج منها بسرعة أثناء السباقات لا أدري. لكن ما يجب عليك فعلا الاعتياد عليه هو تحسن الأداء بعد كل لفة. فهذه السيارات تتطلب حرارة عالية للإطارات لتوفر أعلى أداء وتماسك. وهكذا، فلفة بعد لفة تجد نفسك تقود بسرعة أكبر، تأخذ المنعطفات بسرعة أعلى، وتكبح متأخرا أكثر. المشكلة هي أن حدود السيارة القصوى أعلى بكثير من قدراتي الشخصية. وحتى بعد عدة لفات، وعلى الرغم من الثقة الأكبر والسرعة الأعلى، وبشكل كبير، من الواضح أنني بالكاد اقتربت من حدود السيارة القصوى.
لكن ذلك لا يهم. ما يهمني فعلا، هو أنني قد سنحت لي الفرصة لأختبر قيادة هذه السيارات الثلاث. حقيقة أن عالم السيارات دعيت بشكل حصري لتجربتها، مبعث للفخر، والشعور بأنك سائق محترف، ولو ليوم واحد، أمر لا يوصف. ربما قد فقدت السيطرة في النهاية على السيارة، وربما توقيتي لا يذكر بالمقارنة مع سائقي بورشه المحترفين. ولكن متعة القيادة التي أحسست بها لا تقارن، وأعادت تذكيري مرة أخرى بالسبب الذي جعلني أعشق عالم السيارات الرياضية أصلا.
ولهذا الأمر، لست آسفا أبدا.