يونيو 06, 2020

تاريخ باغاني: حين يمتزج الفن بالإبداع الهندسي

اسم باغاني ليس بغريب على عالم السيارات السوبر رياضية الخارقة. ولكن ماذا يوجد خلف هذا الاسم، وكيف بات اسم باغاني يقبع في نفس الفئة مع أسماء مثل فيراري ومكلارين ولامبورجيني وغيرها؟ إليكم قصة باغاني، وشغف رجل بالسيارات الرياضية الذي تحوّل من حلم طفولة، إلى واقع يناهز الكمال في عالم السيارات.

في صيف عام 1962، في بيت متواضع في منطقة كاسيلدا التي تبعد حوالي 350 كيلومترا شمال غرب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، وقف صبي يبلغ من العمر سبع سنوات أمام والدته، ليريها بكل فخر سيارته الصغيرة التي صنعها بنفسه من الخشب، وأخبرها أنه يوما ما سيصنع سيارة حقيقية، ستكون الأروع في العالم على الإطلاق.

والدته ربما ابتسمت له وربتت على رأسه مشجعة له. ولم يدر في خلدها على الإطلاق أن ولدها الصغير، ابن الخباز في المدينة، سيقف عام 1999 أمام العالم بكل فخر في معرض جنيف للسيارات ليكشف للعالم عن سيارة رياضية خارقة، ستغير مفاهيم الصناعة حول مزج الفن بالهندسة، وجودة الصنع وجمالية التصميم الهندسي. السيارة حملت اسم زوندا، واسم ذلك الطفل كان هوراشيو باغاني.

هوس باغاني الصغير تعمق بالسيارات كلما كبر في السن، فأمضى طفولته يرسم السيارات ويصنع مجسمات لها. وفي مراهقته، قام مع صديقه بصنع دراجات نارية باليد، معتمدين على محركات صغيرة قديمة. وبعدها قام باغاني بصنع أول سيارة بنفسه، معتمدا على جسم تصنعه إحدى الشركات المحلية، مصنوع من الفايبرجلاس ومقوى بالبلاستيك، ليتم تركيبه على قاعدة سيارة أخرى.

وحين حان وقت الدراسة الجامعية، انخرط هوراشيو باغاني في دراسة التصميم الهندسي في كلية الفنون الجميلة. لكن المشاكل السياسية في الأرجنتين أوقفت دراسته، ليعود وينخرط في الجامعة لدراسة الهندسة الميكانيكية، قبل أن يترك الجامعة حين أدرك أن الدراسة النظرية ستمنعه من تحقيق أحلامه في وقتها وتكبل روح الإبداع لديه. فترك الجامعة وأسس ورشته الخاصة للتصنيع، حيث قام بتقديم سيارات معدلة لغايات خاصة، منها شاحنة للبث الإذاعي وأخرى لصالح قسم أبحاث في الجامعة لقياس مدى جودة الإسفلت والتعبيد في الطرق.

وفي عام 1979 قام باغاني بصنع أول – وآخر – سيارة مخصصة للسباقات. كانت سيارة للمشاركة في فئة فورميولا 2، وخطفت الأنظار بتصميمها وجودتها. السيارة لا تزال تقبع في زاوية في مدخل مصنع باغاني حتى اليوم، إذ أنها كانت السبب ربما في نجاح باغاني لاحقا. إذ خطفت أنظار أوغستين بيمونت، بطل الفورميولا 2 في الأرجنتين، ولفتت نظر سائق آخر. سائق معتزل، صار صديقا لباغاني، ومرشدا له. ذلك السائق لم يكن سوى أسطورة عالم الفورميولا واحد الراحل، خوان مانويل فانجيو.

باغاني كان يأمل بأن يقدمه فانجيو إلى أحد مصانع السيارات ليحقق حلمه بالعمل في عالم السيارات الرياضية. ولكن عوضا عن ذلك، قام فانجيو بدل كتابة رسالة «تعريف»، بكتابة رسالة «توصية»، وللمرة الثانية في حياته فقط. وليس لمصنع واحد، بل لخمس شركات هي أوسيلا، فيراري، لامبورجيني، دي توماسو وألفا روميو. نفوذ وسمعة فانجيو كانت كافية لإقناع أربعة منهم ليس بالاستجابة فقط، بل بإجراء مقابلة مع باغاني. الذي لم يستجب؟ إنزو فيراري!

هذه المقابلات أدت لوظيفة، ولكن بعد تأخير مطول. إذ بعد أن عرضت عليه لامبورجيني وظيفة في الشركة، تم سحب العرض بسبب تردي سوق السيارات الرياضية. لكن هوراشيو كان قد حسم أمره، وهاجر إلى إيطاليا مع زوجته الشابة كريستينا عام 1982. كانا معدمين، وعاشا فترة في «كرفان» على ضفاف بحيرة كومو. لكن باغاني لم ييأس، وظل يتصل برئيس قسم الهندسة لدى لامبورجيني، إلى أن وافق الأخير على توظيفه، ولكن كعامل يقوم بكنس أرضية قسم الهندسة. وافق باغاني فورا، وقال له: «حسنا. لكن يوما ما سأصنع سيارة أفضل من سيارتك». ضحك الرجل، وبدأ باغاني مشواره مع لامبورجيني.

سريعا، خبرة هوراشيو باغاني ومهاراته الهندسية وانتباهه لأدق التفاصيل لفتت الانتباه، وبدأ بالترقي في السلم الوظيفي لدى لامبورجيني. هناك تخصص في المواد المركبة، وحاول أن يقنع إدارة لامبورجيني بضرورة اعتماد مواد مثل ألياف الكربون في صنع السيارات. كما عمل ضمن قسم التصميم، حيث أشرف على تصميم النسخة الاحتفالية من لامبورجيني كونتاش «th anniversary25 «، ومن ثم نسخة SE30 من طراز ديابلو. وبينهما عمل على إنتاج نسخة خاصة أخف وزنا من الكونتاش بجسم مصنوع من المواد المركبة. إلا أن كل ذلك لم يقنع إدارة لامبورجيني، مما دفعه في النهاية لشراء الفرن الخاص بألياف الكربون (Autoclave) بنفسه، وليترك لامبورجيني ليؤسس شركته الخاصة.

شركة باغاني سريعا اكتسبت سمعة ممتازة بين شركات السيارات المختلفة، وبدأت بتصنيع قطع للسيارات والقيام بتجارب لصالح هذه الشركات، والتي ضمت لسخرية القدر شركة لامبورجيني، بالإضافة إلى أسماء مثل فيراري ودالارا، وحتى عدد من فرق الفورميولا واحد.

نجاح شركة باغاني، دفع به أخيرا للعمل بجدية على تحقيق حلمه بإطلاق سيارته الخاصة. ومرة أخرى كان لفانجيو دور في ذلك. إذ قام بتقديم باغاني إلى مسؤولي شركة مرسيدس-بنز، حيث كان فانجيو سفيرا للعلامة التجارية ويمتلك وكالة لبيع سيارات مرسيدس-بنز في الأرجنتين.

الهدف هذه المرة لم يكن الحصول على وظيفة، بل الحصول على محرك. تصميم فانجيو وأفكاره واهتمامه بأدق التفاصيل دفع مسؤولي مرسيدس للإيمان بفكرته، والموافقة ليس على تزويده بالمحركات فقط، بل صنع محركات خاصة له، تحمل توقيع فرع AMG الرياضي الشهير، وهو أمر يحلم به معظم صانعوا السيارات الرياضية الصغار، فما بالك بصانع جديد لم يطلق سيارته بعد؟

السيارة كان من المفترض أن تحمل اسم فانجيو، في إشارة تقدير من باغاني للرجل الذي فتح له الأبواب ومكّنه من تحقيق حلمه. لكن القدر كان له بالمرصاد، إذ توفي فانجيو قبل أن ترى السيارة النور، مما دفع باغاني لتغيير اسمها، ولتحمل اسم الرياح التي تشتهر بها جبال الأنديز، زوندا.

حين ظهرت باغاني زوندا لأول مرة في معرض جنيف عام 1999، سببت ما يشبه الصدمة لعالم السيارات. كثير من الحالمين أطلقوا شركاتهم الخاصة لصنع السيارات الرياضية، ولكن ما كشف عنه باغاني كان أمرا مختلفا تماما.

فحين ظهرت باغاني زوندا لم تلفت الانتباه بتصميمها الرائع فقط، ولا بأدائها العالي والذي تكفل به محرك AMG المكون من 12 اسطوانة بشكل V12، بسعة 6.0 ليتر وبقوة 400 حصان. بل ما أذهل الجميع كان المستوى العالي من الحرفية والمهارة والجودة التي ظهرت بها السيارة.

فكل ما في السيارة جرى صنعه بدقة شديدة. مقصورتها آية في الفخامة والجمال، والانتباه إلى أدق التفاصيل وصل إلى كل جزء في السيارة، من الطريقة التي تم وصل ألياف الكربون فيها معا، إلى اسم باغاني المحفور على البراغي المستخدمة في السيارة، والذي تراه دائما في الاتجاه الصحيح دون أي ميلان.

سريعا، بدأت الزوندا بالتطور. محرك الـ V12 كبر حتى وصلت سعته إلى 7.3 ليتر، ومع هذه السعة الإضافية ازدادت القوة. ومع كل تعديل ظهرت نسخة جديدة، ونسخ أخرى حصرية. فمن الزوندا C12، الطراز الأول من السيارة، إلى زوندا F، التي حملت الحرف الأول من اسم فانجيو، وصولا إلى طرازات 760 الخاصة التي صممت كل منها بحسب طلب الزبون، ارتفعت القوة لتصل إلى 760 حصانا، ولتظهر منها نسخ خارقة مثل طراز زوندا R، والذي كان السيارة الأسرع في الدوران حول حلبة نوربورغرينغ الأسطورية.

لكن هوراشيو باغاني ليس بالشخص الذي يظل ساكنا، لذلك لم يكن مستغربا أن يطلق سيارته الثانية بتقنيات أكثر حداثة. هذه المرة حملت السيارة اسم باغاني «وايرا»، والتي سميت بهذا الاسم تيمنا بإله الرياح لدى حضارة الإنكا، وايرا-تاتا. وجاءت السيارة كما لو كانت آلهة تسخر الرياح لخدمتها، مع مساعدات انسيابية متحركة في الأمام والخلف، تلغي الحاجة للأجنحة الثابتة، وتعطي السيارة شكلا رائعا.

باغاني وايرا، جاءت امتدادا لفلسفة التصميم التي أطلقها باغاني مع طراز زوندا. فالأضواء الأمامية المزدوجة، والمرايا البارزة، والأهم منها فتحات العادم الأربعة المحاطة بإطار دائري، باتت علامات مميزة لسيارات باغاني، وتأتي بشكل ولا أروع في باغاني وايرا الرائعة.

التقنيات الحديثة استمرت في تجهيزات السيارة. المحرك لا يزال محركا خاصا لباغاني من صنع فرع AMG لدى مرسيدس. ولكنه الآن بسعة تبلغ 6.0 ليتر مع شاحني تيربو، ليولد قوة تبلغ 720 حصانا في الطراز القياسي، مع علبة تروس مزودة بسبع نسب أمامية متتالية (Sequential).

ومرة أخرى لم يكتف باغاني بالنسخة القياسية. إذ تبعتها باغاني وايرا BC، حيث ترمز الأحرف إلى اسم «بيني كايولا»، الزبون الأول الذي قام بشراء سيارة من باغاني، تخليدا لذكراه. إذ فارق الحياة قبل إطلاق السيارة بفترة وجيزة.

واليوم، تفتتح باغاني مكتبها الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط. وبهذه المناسبة تقدم الشركة طراز وايرا BC رودستر المكشوف لأول مرة في المنطقة. يجمع الطراز الجديد ما بين الفخامة المترفة والحرفية الفائقة، والتصميم المميز، والتكنولوجيا المتطورة التي ستدغدغ مشاعر ليس فقط أولئك المحظوظين الذين سيحظون بفرصة قيادة هذه السيارة الفريدة، بل كل من ستتسنى له فرصة رؤيتها وسماع صوتها.

وكما هو الحال مع كل سيارات باغاني، تم الاهتمام بتشكيل كل قطعة فيها، من الديناميكيات الهوائية إلى التصميم الخارجي والداخلي، وحتى أصغر قطعة وأدق تفصيل في السيارة، ليشكل كل عنصر من عناصر رودستر BC تجسيدا حقيقيا للانصهار التام بين حرفية التصميم والتكنولوجيا المتقدمة وجودة التصنيع التي تميز باغاني، كما لو كانت تمثالا رائعا، أبدعته أنامل مايكل آنجلو، أو لوحة مذهلة من عصر النهضة خطتها فرشاة ليوناردو دا فينشي.

دا فينشي ليس تحديدا الاسم الذي نربطه بعالم السيارات الرياضية. ولكن هذا العبقري الإيطالي الذي يجسد عصر النهضة فعلا، كان عاملا مهما في تشكيل هوية وشخصية هوراشيو باغاني وشركته. فليوناردو دا فينشي لم يكن مجرد رسام ماهر اشتهر بفضل لوحة الموناليزا. بل ربما الموناليزا اشتهرت كونه هو من رسمها. إذ كان دا فينشي رساما، نحاتا، مهندسا، عالما ومخترعا، رجل غموض وأسرار، وشخصية فذة لن يكرر التاريخ مثلها. كذلك كان فيلسوفا آمن بأن العلم والفن يسيران جنبا إلى جنب. فلسفة تأثر بها ودرسها بشغف شاب أرجنتيني، من أصول إيطالية، كان يحلم حين كان طفلا في السابعة بأن يصنع يوما ما سيارة تحمل اسمه. ذلك الشاب هو هوراشيو باغاني.

واليوم، هو يصنع أروع سيارة في العالم.

أهم المقالات